[b]الفضولية طبع من طباع الإنسان، فهو فعلاً حريص على ما مُنِع، فكلّما منعته من شيء، ظنّ أنّك تحجب عنه (خيراً) أو فضلاً) أو (فرصة للرقي)، والقصة التي تروى للأطفال قبل النوم من أنّ بطل القصة قد مُنح حرِّيّة التجوّل في القصر المنيف ذي الأربعين غرفة، ومنع من الدخول إلى غرفة واحدة فقط، هي الغرفة الأربعون، هي قصّة الإنسان في تعاطيه مع الحلال والحرام.
الصيّادون من بني إسرائيل يصطادون في الأسبوع ستّة أيّام، واليوم السابع يوم (الصيد ممنوع)، فلم تكفهم الستّة حتى راحوا يسطون على اليوم السابع (يوم الحرمة) ليصطادوا فيه.
صاحب النعاج الـ(99) لم يُفكِّر في أن يعطي لأخيه تسع نعاج حتى يضيفها إلى نعجته فتصبح نعاجهُ عشراً، بل ولم يفكِّر في أن يعطيه نعجة أخرى لتؤنس نعجته الوحيدة، بل راح يصرّ يلحّ ويبرمه بكثرة إلحاحه في أن يهبه النعجة الوحيدة الممنوعة عليه بإعتبارها في مُلكِ غيره، ليضيفها إلى الـ(99) نعجة حتى تصبح مئة كاملة!
إنّ الأسباب التي تجعل الإنسان حريصاً على التشرنق في شراك الضيق في مقابل الرحب والسعة، ثلاثة:
1- (طمعهُ): فهو يطلب المزيد ولا يكتفي بالموجود، فالنعجة الواحدة تسدّ في ظنّه نقصاً أو خللاً في إكتمال العدد مئة، واليوم السابع يمكن أن يضيف إلى رصيد الأسماك وفرة لا تتحقّق في الأيّام الستّة، ولو أعطى صاحب النعجة نعجته لأخيه، لراح يجهد نفسه في جعل المئة مئتين، وهكذا، ولو أعطي الصيادون اليوم السابع لتساءلوا: إنّ الأسبوع قليل، لو كان أسبوعنا ثمانية أيّام أو عشرة؟!
2- (فضوله): فالإنسان مفطور على حبّ الإطلاع والمعرفة والتنقيب والإستكشاف والنبش والبحث ورفع النقاب عن المستور، وكسر قفل الغرفة الأربعين ليرى ما بداخلها، أو تذوّق الشجرة الوحيدة الممنوعة بين الألوف المؤلفة من الأشجار المباحة.
3- (سوءُ ظنّه): فهو سيِّئ الظن عادة في الممنوعات، يرى أنّ الممنوع إنّما حُجر أو حُظر أو منع عليه لسرّ، هو التضييق عليه في حرِّيّته، أو في ملكيته، أو سعادته، أو كماله، وأنّ المانع يريد أن يحتفظ بالممنوع لنفسه فلا يرخّص لغيره الإستمتاع به.
وهذا كلّه سوء تقدير وقصر نظر، فليس كلّ الممنوعات لذائذ ومتعاً وطيِّبات، بل أكثرها مؤذٍ ومضرٌّ ومُسيء، وليس اشتهاء من المانع أو مواجاً يريد أن يمليه على الممنوعين، فما منع إلا لسبب راجع له، أو عائد للممنوع عنه، وفي كل الأحوال هناك تقدير لمصلحة يراها (المانع) ولا يتصوّرها (الممنوع).
إنّك عندما تمنع مثلاً من الإقتراب من غرفة التموين الكهربائي، بأي إشارة من إشارات الخطر، فلمعرفة المانع وخوفه عليك من خطر مميت.
وحينما تصدر دائرة أو مديرية الحفاظ على الثروة السمكية خطراً على الصيد في أوقات معيّنة، فلأنّها تعرف وتُقدِّر أكثر منك أن تلك هي فترة خصوبة السمك وتكاثره، فإذا حصل الصيد منعناه من أي يتكاثر، وبالتالي هددنا الثروة السمكية بالتناقص أو النضوب.
وإذا منعت من الدخول إلى غرفة فيها خصوصية معيّنة، فاحتراماً لتلك الخصوصية، كما أنّك لا تريد أن يقتحم عليك غرفتك أحد من غير إستئذان.
وإذا منعتك إدارة مستشفى من إصطحاب الطعام معك لمريض قريب وعزيز عليك، فإنّها لا تريد أن تمنعك عن ممارسة طقوس الحب وإبداء مشاعر التعاطف مع مريضك، ولكن برنامجها يتطلّب تخصيص غذاء معيّن للمريض لا يصحّ خرقه أو التطاول عليه.
ولذلك، فإنّ أي تجاوز للحالات المارّة الذكر له ضريبته التي قد تكون فادحة أحياناً، وقديماً قيل: "مَنْ تدخّل فيما لا يعنيه وجد ما لا يرضيه".
إنّ مثال الشجرة المحرَّمة أو الممنوعة في جنّة آدم وحواء يعطينا الدرس في أن إختراق الممنوعات ربّما يتسبب في خسارة كلِّية لا تعوّض، فقد أخسر الجنّة بكل أشجارها لأنّني اعتديت على شجرة واحدة حذّرت من الإقتراب منها والأكل منها.
إنّ ثقافة إحترام الممنوع وعدم دسّ الأنف فيه، والتسلُّل إليه، أو التجسّس عليه، أو خرقه وإنتهاكه، يمكن أن تُبنى من خلال (حسن الظنّ) بالمانع، الذي لم يكن حين وضع لافتة المنع – يعرفني، فهو لم يقصدني أنا بالذات، بل كلّ مَن يقترب من الممنوع، أي أنّه ليس لديه عقدة من أحد، بل يُفكِّر بطريقة تحمي الجميع وتُحقِّق المصلحة للجميع، فيمكن القول إنّ منعه كان (للإنسان) النوع لا للإنسان الفرد، وتلك ميزة التشريع الكبرى.[/b]